المسلمون والعلاقات الإنسانية
بقلم
: د./
أحمد عبد الرحيم السايح
الإنسان في التصور الإسلامي قمة الكائنات الحية التي
تعيش على وجه البسيطة، وأفضلها وأكرمها. لما أودعه الله فيه من مزايا، وميزه من
صفات وبداية لابد أن ندرك: أن الثقافات العالمية بدأت تتلاقى، نتيجة ثورة وسائل
الاتصال والانتقال.
فالجهل المتبادل بالآخر على مستوى العالم
لم يعد قائمًا.
كما أن الحواجز بين الشعوب والثقافات سقطت
.
وصار الناس في أجزاء مختلفة من العالم يتعرفون على بعضهم؛ فيكتشفون
أوجه الاختلاف والاتفاق .
كذلك هناك الإحساس المتبادل بين المجتمعات
الإنسانية بوجود أخطار مشتركة على العالم كله، تتجاوز حدود الثقافات، والعقائد
الدينية، والقوميات. مثل العنف في العالم، ونفاذ الموارد خصوصًا المياه، وتدمير
البيئة نتيجة الإسراف في التصنيع(1).
وقد لا يخفى: أن الحياة الإنسانية
المعاصرة. تشكل في الواقع إحدى السمات الكبرى للعصر الحاضر.
فالنمو المتصاعد للثقل النوعي للبلدان
النامية في الاقتصاد العالمي، وفي السياسة الدولية ونهضتها الثقافية التجديدية
سواء المرتبطة بتعرفها خصائص الثقافة العالمية وقيمها. أو بتنشيط التراث الثقافي
التقليدي لهذه البلدان وإحيائه مجددًا. والتأثيرات المتسارعة لمنجزات الثورة
العلمية التقنية .
وعمليات الهجرة إلى قارات ومجتمعات أخرى،
وتطور وسائل المعلومات، والاتصال الجماهيري. والسياحة لعامة على نطاق جماهيري. كل
هذه المعطيات غيرت وجه العالم وغيرت رؤية الناس وإدراكهم لهذا العالم الجديد
أيضًا.
وبالإضافة إلى ذلك؛ فإن تطور العلم الذي
أسهمت فيه العلوم الإنسانية إسهامًا كبيرًا خاصةً في ميادين: التاريخ،
والإثنوغرافيا، والأنتروبولوجيا، وعلم النفس، أغنى كثيرًا الرصد العقلي للإنسانية
جمعاء، بحيث ساعد بدوره على تكوين نمط جديد من التفكير، وظهور أساليب وطرق متجددة
مبدعة في دراسة الكون ومشكلاته العامة من زاوية إنسانية شمولية(2).
وقد لا يخفى على باحث أن: ابتعاث رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان منعطفًا تاريخيًا في حياة الناس جميعًا، وتحولاً حضاريًا
متميزًا في نهج حياتهم وتعاملهم.
تحول الخطاب فيه من قومية الأديان،
ومحدودية مقاصدها، إلى عالمية الإسلام وشمولية دعوته، وتكامل مقاصده، ومن عزلة
المجتمعات البشرية، وتضادها، وتصارعها إلى وحدة الأسرة البشرية، وتعاون مجتمعاتها.
حيث سمع الناس لأول مرة في تاريخهم
الإنساني، فكرة المجتمع الإنساني الواحد كما سمعوا أيضًا لأول مرة فكرة التعايش
السلمي بينهم من غير تمايز بينهم على اختلاف أقوامهم، وأجناسهم، وأعراقهم،
وأديانهم، وأوطانهم(3).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعمل على
نشر الإخاء الإنساني. الذي يتجاوز المسلمين إلى غير المسلمين؛ لذا نجد الرسول صلى
الله عليه وسلم يعقد مع اليهود حلفًا أساسه التعاون على الخير، وحماية الفضيلة،
ودفع الأذى، وحماية المدينة، من كل اعتداء، ومنع الظلم، وردع المجرمين العابثين
بالأمن. وأكد النبي صلى الله عليه وسلم ذلك بالمواثيق.
والإسلام الحنيف لا يكتفي بمحو أسباب
التفرق، والنزاع بين الناس؛ بل يدعو إلى التسامح العام؛ لأن التسامح يداوي القلوب
المكلومة، ويجتذب النفوس النافرة.
فالإسلام منهج الناس جميعًا، ومقاصده
لخيرهم وفلاحهم، وخطابه لهم على اختلاف أقوامهم، وأجناسهم، وأعراقهم وأديانهم .
فهو تحول حضاري شامل ينتقل بالناس من ضيق
القوميات، والأعراق، والأجناس، إلى سعة الأسرة البشرية، وتعاون مجتمعاتها. في إطار
منهجية المجتمع الإنساني الواحد، وفي إطار منهج التعاون بين الناس جميعًا على أساس
من قيم ربهم(4).
ولاشك أن للغرب وحضارته علاقات ولقاءات
بالمسلمين وحضارتهم على مدى التاريخ.
وقد يكون مفهومًا لدى الباحثين: أن المصالح
الاقتصادية، والعلمية، والتقنية تتداخل لدرجة أن المصالح السياسية أحيانًا تبدو
متشابكةً بل ومشتركةً في بعض الميادين .
ومما لا يخفى: أن الإسلام قدم نظرةً شاملةً
للكون، والحياة، والإنسان. وأن هذه النظرة تبقى أساسيةً وصالحةً للبشر في كل زمان
ومكان.
وهذه النظرة تشمل الأخلاق، والاقتصاد،
والاجتماع، والسياسة، ومن هذه المنطلقات قامت الحضارة الإسلامية على مبدأين مهمين:
هما التغيير، والاستشراف.
ولعل فواتح كتب الرسول صلى الله عليه وسلم
إلى امبراطور الروم، وكسرى توضح هذين المبدأين .
فقد جاء في رسائل الرسول صلى الله عليه
وسلم بعد المقدمة ﴿قُلْ يَا أَهْلَ
الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا
نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا
بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ﴾ آل عمران: آية64.
وهذه الآية الكريمة جاءت لتقرر مبادئ
إسلامية في علاقات المسلمين بالغرب والشرق، وكل الناس.
-
مبدأ الاعتراف بالآخرين .
-
مبدأ الحوار وأهميته .
-
مبدأ احترام المشيئة الذاتية لدى الآخر.
-
مبدأ استشراف المستقبل في ظل علاقات إنسانية سامية .
وفي تاريخ التفاعل المتبادل بين الشرق
الإسلامي والغرب. لعبت العلاقات الإسلامية المسيحية دورًا خاصًا.
فالمسيحيون والمسلمون على حد سواء. كانوا
يتصفون دائمًا بإدراكهم الرابطة الروحية المشتركة – وإن كانت محدودة الأبعاد – وفي
الوقت نفسه كانوا يدركون الاختلاف الجوهري بالنسبة لخبراتهم في المجال الثقافي
الأيدلوجي .
وبدءًا من انتشار الإسلام، ونشوء الخلافة
الإسلامية، ظهر التضاد الديني: "الأيديولوجية بين الغرب والمشرق العربي". ولكن عملية التواصل
الثقافي بين الإسلام والغرب لم تنقطع كُلِّيًّا(5).
وإذا كان الإسلام يدعو إلى الحوار مع غير
المسلمين، واللقاء بالغربيين؛ فقد كان هناك لقاء عملي تم بين الشرق الإسلامي
والغرب المسيحي من خلال المؤسسات العلمية التي قامت في الأندلس.
حيث جاء أبناء الغرب من الجزر البريطانية،
ومن فرنسا، وألمانيا، والأراضي المنخفضة وغيرها. يأخذون عن المسلمين علومهم،
وعادوا بها إلى بلادهم حيث استطاع الغرب بذلك أن يؤسس نهضةً صناعيةً وزراعيةً .
وقد أرسل الملك "جورج" ملك بريطانيا
وفدًا من بنات الأشراف الإنجليز مكونًا من ثماني عشرة فتاةً برئاسة ابنة أخيه
الأميرة: "دوبونت".
ورافق الوفد أحد كبار موظفي القصر الملكي
البريطاني هو النبيل "سيف ديك" ومع الوفد هدية ثمينة للخليفة .
وجاء في رسالة الملك "جورج" إلى الخليفة
الأموي بالأندلس بعد مقدمة ودية: "لقد سمعنا عن الرقي العظيم. الذي تتمتع بفيضها الصادي،
معاهد العلم، والصناعات. في بلادكم العامرة فأردنا لأبنائنا اقتباس نماذج من هذه
الفضائل. لتكون بدايةً في اقتفاء آثاركم لنشر أنوار العلم في بلادنا.
وقد أرسلنا ابنة شقيقنا الأميرة (دوبونت)
على رأس بعثة من بنات الأشراف الإنجليز؛ لتكون مع زميلاتها موضع عناية عظمتكم،
وحماية الحاشية الكريمة، وعطف اللواتي سيتوفرن على تعليمهن .
وقد أرفقت الأميرة الصغيرة بهدية متواضعة،
لمقامكم الجليل، وأرجو التكرم بقبولها مع التعظيم والحب الخالص .
وعند وصول البعثة أمر الخليفة باستضافة
جميع أعضائها، والمرافقين في قصره وإحاطتهم بكامل الضيافة، وتخصيص نفقة مالية لكل
منهم في بيت مال المسلمين .
وبعث الخليفة هشام السادس آخر الخلفاء
الأمويين في الأندلس بخطاب جوابي إلى الملك البريطاني جاء فيه:
"لقد اطلعت على التماسكم؛ فوافقت على طلبكم بعد استشارة
من يعنيهم الأمر . أما هديتكم فقد تلقيتها بسرور زائد، وبالمقابلة أبعث لكم بغالي
الطنافس، وهي من صنع أبنائنا وهديةً لحضرتكم. وفيها المغزى الكافي للتدليل على
اتفاقنا ومحبتنا والسلام"(6).
والمتأمل – أعماقًا وأبعادًا – في علاقة
المسلمين بغيرهم . يجد أن المسلمين عندما شعروا بالتأخر الذي أصاب بلادهم بعد سقوط
الخلافة العثمانية، وجدوا أن الفرصة مناسبة لتعلم علوم الغرب. ولذا كانت هناك
محاولات تطويرية قامت في مصر على يد محمد علي، وامتدت بعد ذلك إلى كثير من بلاد
المسلمين .
وقد سافر بعض الشبان المسلمين إلى أوروبا،
وأخيرًا إلى أمريكا لطلب العلم حيث استطاع كثيرون أن يكتسبوا علومًا ونظمًا وطرائق
في مجالات الفيزياء والكيمياء، والرياضيات، والطب، والتربية، والإدارة، والعلوم
الإنسانية، وعادوا إلى بلادهم يدعون إلى التقدم في مجالات الطب، والزراعة،
والصناعة، والتعليم، والتنظيم الإداري(7).
ومن المسلم به أن علاقة المسلمين بغيرهم هي
علاقة إنسانية. تدفعها الرغبة في العيش الكريم، والسلام الشامل، بين جميع الناس.
ولقد اعتبر الإسلام الإنسان هو المخلوق
المكرم على سائر مخلوقات الله، وتكريم الله للإنسان يبدو واضحًا جليًا، ويصحب
الإنسانية كلها منذ أبيها آدم، وسيظل معها إلى أن تلقى ربها.
وهذا التكريم يشمل جوانب هذا المخلوق كلها.
حيث خلقه الله في أحسن صورة، وأكمل هيئة، ثم كان ترشيحه ليكون خليفةً في أرض الله
يعمرها، ويستخرج كنوزها، ويظهر فضل الله على عباده فيها.
إن الإنسان في نظر الإسلام يستحق هذه
الكرامة الإنسانية بمقتضى كونه إنسانًا لا للونه ولا لجنسه، ولا لكونه شريفًا، أو
ذا حسب، أو ذا جاه، وإنما لكونه إنسانًا فقط .
قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ
كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ
مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا﴾
الإسراء: آية 70.
وهذا التكريم ليس خاصًا بإنسان دون آخر،
ولا بلون دون آخر، إنما الجميع سواء في حق التكريم الإنساني(8).
وليست هذه أو تلك دعاوي كما يريدون أن
يصوروا، إنما هو الإسلام الذي عرف للإنسان كرامته، وآدميته وبشريته بالصورة المثلي
التي يجب أن تكون.
وقد يكون واضحًا أن آيات القرآن الكريم
حفلت بذكر الإنسان والناس والبشر في كثير من المواضع والمواقع .
وأنت إذا تأملت تلك المواضع والمواقع. وجدت
أن القرآن الكريم يخص من هذا الكون مخلوقًا هو الإنسان؛ فيتحدث عنه مرات كثيرةً؛
بل يخصه بالمخاطبة؛ لأنه هو المقصود ولكنه في الوقت نفسه يشير إلى موقعه من هذا
الكون .
فالإنسان أولاً: نوع من أنواع أخرى في هذا
الكون، يشترك معها في أمور، ثم يتميز عنها فهو مخلوق من تراب في الأصل.
قال تعالى فيه: ﴿إنَّ مَثَلَ
عِيْسَىٰ عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَه مِنْ تُرَابٍ﴾ آل
عمران: آية 59.
والإنسان ثانيًا: نوع من أنواع الحيوانات.
يدخل في تصنيفها ويشترك معها في أمور.
قال تعالى فيه: ﴿وَاللَّهُ خَلَقَ
كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ
مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ﴾
النور: آية 45.
والإنسان ثالثاً: نوع متميز عن الحيوان.
كما يبدو في قوله تعالى فيه: ﴿ثـُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ﴾
المؤمنون: آية 114. وذلك من جهة خلقه وتكوينه الجسمي .
والإنسان رابعًا: يتميز بجانب روح: أشارت
إليه آيات كثيرة. كقوله تعالى: ﴿فَإذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيْهِ مِن
رُّوْحِيْ فَقَعُوْا لَهُ سَاجِدِيْنَ﴾ الحجر: آية 29.
وفي القرآن الكريم بعد هذا آيات كثيرة. في
ذكر نفسية الإنسان وما يميل إليه. ومن زينة الدنيا وشهواتها، وما يضطرب فيها. من
مختلف المشاعر والعواطف. وما فيه من الصراع الدائم الذي ابتدأ منذ قصة آدم. ولا
ينتهي إلا بانتهاء قصة الإنسان كلها على هذه الأرض(9).
وفي القرآن الكريم آيات أخرى لتوجيه
الإنسان في ميوله ومشاعره. وحركته في الحياة.
والإنسان في عقيدة القرآن الكريم هو
الخليفة المسؤول بين جميع ما خلق الله. يدين بعقله فيما رأى وسمع. ويدين بوجدانه
فيما طواه الغيب. مما لا تدركه الأبصار والأسماع.
فالإسلام ينظر إلى الإنسان نظرةً تضعه فوق
مستوى الكائنات الحية جميعًا. في هذا الكوكب الذي أقامه الله تعالى فيه؛ ليكون
خليفةً مسؤولاً.
وقد استعمل القرآن الكريم لفظ الإنسان في
كثير من الآيات. فقال تعالى فيه: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ
صَلْصَالٍ مِنْ حَمَأٍ مَسْنُوْنٍ﴾ الحجر: آية26.
وقال تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا
الإنْسَانَ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ طِيْنٍ﴾ المؤمنون: آية 12.
وقال تعالى: ﴿خَلَقَ الإنْسَانَ
مِنْ طِيْنٍ﴾ السجدة: آية 7.
وكلمة الناس الدالة على الجنس البشري.
يتكرر استعمالها في آيات متعددة، وكثير منها ورد خطابًا للبشر عمومًا. كقوله
تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا..﴾ الحجرات: آية 13.
وكلمة الناس استعملت في القرآن الكريم
بمعنى الجنس البشري عمومًا. لا بمعنى المسلمين أو العرب. بدليل قوله تعالى في
الآيات التالية. مما لا يمكن حمله إلا على الناس عمومًا. قال تعالى: ﴿إنَّ
اللهَ لَذُوْ فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ﴾ غافر: آية 61.
وقال تعالى فيه: ﴿يَسْأَلُوْنَكَ
عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيْتُ لِلنَّاسِ﴾ البقرة: آية 189.
وقال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الأَيَّامُ
نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ آل عمران: آية 140.
وقال تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنِّيْ رَسُوْلُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيْعًا﴾ الأعراف: آية 158.
فالقرآن الكريم – كما – ترى لا يخاطب
قوميةً معينةً، ولا شعبًا معينًا؛ بل يخاطب الإنسان، ويتحدث عن الأمم ﴿كَذٰلِكَ
أَرْسَلْنَاكَ فِيْ أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَم﴾ الرعد: آية
30.
واستعمل القرآن الكريم كذلك كلمة البشر.
للدلالة على الجنس البشري الواحد. وقد استعملت هذه الكلمة في أكثر من موضع. قال
الله تعالى: ﴿وَإذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّيْ خَالِقٌ بَشَرًا﴾
الحجر: آية 28. وقال تعالى : ﴿وَمِنْ آيَاتِه أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ
ثـُمَّ إذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْشِرُوْنَ﴾ الروم: آية 20.
والآية القرآنية: يَا أَيُّهَا النَّاسُ
إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ
لِتَعَارَفُوا﴾ الحجرات: آية 13. تشير في وضوح إلى أن البشرية تتألف من
مجتمعات قبيلة وشعوب أو أقوام، وكلمة الناس هي تعبير عن الجنس العام يشملها
جميعًا.
والآية تشير أيضًا إلى اتجاه تطور البشرية:
أسر أو قبائل وشعوب في اتجاه التعارف وهو المعرفة المتبادلة من جميع الأطراف .
إن الإسلام الحنيف جاء – كما يفهم من
الآيات القرآنية – ليقيم بين البشر جميعًا رابطة الإنسانية القائمة على ارتباط
البشر جميعًا بالله الخالق – جل وعلا – فهم جميعًا عباد الله: فالاتجاه الإنساني
في تعاليم الإسلام وتوجيهاته.
لقد جاء الإسلام ليضيء آفاق الحياة أمام
الناس، ويمحو من دنياهم الظلام، والضلال.
وكان من عناية الله بالإنسان، أن استخلفه
على أرضه، واستلهمه أسرارها، وهيأه بالاستعدادات والقدرات، التي تمكنه من القيام
بواجبه، والاضطلاع بمهامه .
ولقد تضافرت رسالات السماء منذ أن استنارت
الأرض بنورها على تحرير ساحة الحياة(10).
وإذا كان الإسلام يحترم الغرب والشرق من
واقع المعالي الإنسانية؛ فإن الإسلام الحنيف من جهة أخرى جامع للرسالات الإلهية
وهو الجامع بينها.
والإسلام كذلك دين الوحدة الإنسانية
الجامعة؛ فالناس جميعًا سواءٌ. بالنسبة للأحكام الإسلامية. وهو يقرر الوحدة بأصل
التكوين؛ فيقول سبحانه وتعالى: ﴿وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً
وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوْا﴾ يونس: آية 19.
ويقول سبحانه وتعالى: ﴿كَانَ
النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّيْنَ مُبَشِّرِيْنَ
وَمُنْذِرِيْنَ﴾ البقرة: آية 213.
فكان الاتحاد في أصل التكوين من حيث اتحاد
الغرائز، والاتجاهات الإنسانية سببًا في الاختلاف؛ لأن آحاد الناس يتنازعون
استجابةً لغرائز كل واحد منهم؛ إذ أنه حيث استجاب كل واحد لغرائزه تصطدم إرادته مع
إرادة الآخر. الذي استجاب هو أيضًا لغرائزه؛ فيكون التناحر حيث تصطدم الشهوات
وتتنازع الإرادات.
وكل يحب لنفسه الاستيلاء على أكبر قدر من
المطالب. والوصول إلى أقصى ما يحب من الغايات. ولذلك كان لابد من فاصل يرسم
الحدود. ويقيد الغايات لتتلاقى في خط مستقيم من غير انحراف. ولا تقاطع؛ بل يكون كل
خط مواز لخط أخيه. وكل الخطوط تنتهي إلى خدمة الجماعة الإنسانية. وبذلك تتحدد
الغايات والأهداف(11).
لقد جعل الله اختلاف الناس شعوبًا وقبائل
للتعارف والتعاون. لا للتباغض والتنازع. ولذلك قال سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا
وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾
الحجرات: آية 13.
فاختلاف الشعوب له غاية جليلة أرادها الله
سبحانه وتعالى. وهو التعارف وهذا التعارف له ظواهر:
- الظاهرة الأولى: اللقاء على مودة وتراحم
في أمن وسلام.
- والظاهرة الثانية: التعاون على أن ينتفع
الإنسان بكل خيرات الأرض .
- والظاهرة الثالثة : تكريم الإنسان في هذه
الأرض(12).
وقد لا يخفى على أهل العلم: أن التعارف
يقود إلى التعاون المستمر البناء الذي يفيد الإنسانية كلها.
إن منهج القرآن يعلم المسلمين ويؤكد عليهم:
أن البشرية مدعوة بأمر ربها – جل شأنه – للتعارف، والتعايش. وفق القيم، والمعايير
الإسلامية على اختلاف أجناسهم، وأعراقهم وأديانهم، وألوانهم .
وإن إتيان الحق، ومجانبة الباطل. هو أساس
التنافس بينهم. وهو أساس معيار القرب والبعد من تقوى الله ومرضاته. قال تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ
شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ
أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ الحجرات: آية 13.
إن الإسلام الحنيف يؤكد أن أساس دين الله
تعالى يقوم على إقامة العدل بين الناس والعدل حق للناس أجمعين(13).
وأساس الأحكام الإسلامية المنظمة لعلاقات
الناس جميعا بعضهم مع بعض أحادًا وجماعات هو العدل. قال تعالى: ﴿إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾
النحل: آية 90.
إن الإسلام يقر بمشروعية التدافع الإنساني
ومنهجية التدافع بين الناس قائمةً على أساس التنافس في جلب المصالح، ودرء المفاسد.
مما يوفر للمجتمعات الإنسانية الأمن والاستقرار.
وهذا مؤكد في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلاَ
دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلـٰـكِنَّ
اللهَ ذُوْ فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِيْنَ﴾ البقرة: آية 143.
ومن جهة أخرى؛ فإن التدافع بين الناس
يؤدِّي إلى حماية حريات الناس في معتقداتهم، وأنماط حياتهم، وصيانة معابدهم على
اختلاف مللهم. وهذا في قوله تعالى: ﴿وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ
بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ
يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا﴾ الحج: آية 40.
ومن مفاخر الفقه السياسي في الإسلام، أن
الشرائع جاءت لتحقيق مصالح العباد حيث أن مبناها يقوم على تحقيق أكمل المصالح،
ودفع أعظم المفاسد.
إن مبادئ الإسلام وقيمه تعلم المسلمين
وتؤكد عليهم احترام وتقدير كل عطاء خير في ميادين القيم والسلوكيات، وفي ميادين
الماديات والوسائل والمهارات.
إن الإسلام مثلما وضع ثوابت ومنطلقات، وقدم
قيمًا ومبادئ كليّةً؛ لضبط أدبيات ومقومات التعايش البشري، والتعارف الإنساني؛
فإنه وضع أيضًا ثوابت ومنطلقات، وقدم قواعد وأسس لضبط حركة مصالح الناس، وقدم
قيمًا وأدبيات لأحكام سيولة تبادل المنافع بين المجتمعات الإنسانية في إطار التعايش
والتعارف(14).
إن الإسلام باعتباره منهجًا حضاريًا قد جعل
مقاصده الحضارية المادية والقيمية، من أجل تحقيق كليات مقاصد الشريعة الإسلامية
المتمثلة في الضرورات الإنسانية التالية وحاجاتها:
حفظ النفس. وحفظ الدين، وحفظ العقل، وحفظ
العرض، وحفظ المال.
إن المسلمين وفق الثوابت والمنطلقات يجدون
أنفسهم في كل وقت، مؤهلين لأداء مهمتهم، ومساهمتهم الإيجابية الفعالة. في معترك
التدافع الإنساني؛ لإنهاء حالة القلق والذعر: التي تحيط بالناس، وإزالة عوامل
الاضطراب، والجشع والاصطراع السياسي، والاقتصادي بين الأمم، وضبط حركة التدافع
الإنساني، وإقامة موازين القسط للتعايش والتعاون البشري، بما يرتقي بمنهجية
التبادل، والتكامل الثقافي، ويحقق للناس تطلعاتهم لحياة إنسانية آمنة مطمئنة تنعم
بالأمن والاستقرار والعدل والسلام.
ومن المؤكد أن علاقة الإسلام بالمجتمعات
الأخرى هي علاقة إنسانية. تدفعها الرغبة في العيش الكريم، والسلام الشامل بين جميع
الناس، سيما وأن المسلمين يملكون حضارةً هي في أساسها ومقوماتها حضارة إنسانية وأن
وجود أقليات إسلامية في المجتمعات الأخرى وفي الغرب بالذات يساعد المسلمين على
تحقيق حوار حضاريٍّ.
وذلك بأن تكون الأقليات عنصرًا فاعلاً في
النسيج الاجتماعي في كل بلد تعيش فيه هذه الأقليات. وذلك من خلال الإخلاص في
العمل، والصدق في القول والوعد، والمبادرة إلى فعل الخير للآخرين، وإشاعة روح
المودة في المجتمع الذي يعيش فيه، واحترام عقائد الآخرين(15).
كذلك المراكز الثقافية الإسلامية. تؤدي
دورًا كبيرًا في تقريب وجهات النظر.
ولابد أن نمد يد الصداقة لمؤسسات ومعاهد
وجامعات في الغرب تعني بدراسة التراث الإسلامي وطريقة التفكير لدى المسلمين. مثل "جامعة هارفارد"، و"جامعة بيل" في أمريكا، و"كامبردج"، و"أكسفورد"، و"جامعة لندن" في بريطانيا،
و"السوربون"، و"معهد العالم العربي" في فرنسا.
وقــد ظهر عدد من القيادات الغربية
يتحدثوزن عن الإسلام ويحاولون أن يتحدثوا عنه بإنصاف.
ولهذا كان على أمتنا الإسلامية. أن تنظر
إلى الغرب والشرق من خلال فقه العلاقات الدولية، وفقه المصالح المشتركة، وفقه
التعايش البشري، مع الاعتراف بالتنوع في الأديان، والأعراق، والأجناس.
في إطار التدافع والتنافس الإنساني لتحقيق
المصالح، وصرف الفساد عن الأرض: وفق منهجية السياسات الشرعية وفقه الأولويات وفقه
الموازنات: وفقه المصالح، وفقه الضرورات، وفقه الرخص والعزائم وغيرها(16).
وإذا تم النظر إلى غير المسلمين من خلال
هذه المعالم، أدركنا أن هناك عناصر اتفاق وإحساس مشترك. يكونان في النهاية بنيةً
أخلاقيةً تحتيةً لحركة المجتمع الإنساني.
* * *
الهوامش:
1- راجع الدكتور أحمد كمال أبو المجد: الاتجاه إلى حوار
إسلامي غربي. جريدة الحياة، الجمعة 21 مارس 1997م ص 18.
2- إليكس جورافسكي: الإسلام والمسيحية، ص 18 عالم المعرفة،
الكويت 1996م .
3- راجع الدكتور محمد أحمد الرفاعي: الإسلام والنظام
العالمي الجديد، ص 67-69 بتصرف واختصار ط: كتاب دعوة الحق رقم 146، رابطة العالم
الإسلامي، صفر 1415هـ، مكة المكرمة .
4- د. حامد أحمد الرفاعي: الإسلام والنظام العالمي الجديد،
ص144.
5- إليكسى جورافكسي: الإسلام والمسيحية، ص 27.
6- سعيد عطية أبو عالي: الإسلام والغرب حوار لا صراع، ص
13-15: كتيب المجلة العربية رقم1 العدد الأول محرم 1418هـ مايو 1997م السعودية .
7- المصدر السابق ص 15.
8- الدكتور عبد الرحمن عمر الماحي: دعائم العلاقات
الإنسانية في الإسلام، مجلة منار الإسلام صفر 1418هـ، ص7، الإمارات.
9- الأستاذ محمد المبارك: العقيدة في القرآن ص9.
10- انظر الدكتور أحمد السايح: معاليم مضيئة في القرآن
الكريم ص 140، تحت الطبع.
11- الشيخ محمد أبو زهرة: المجتمع الإنساني في ظل الإسلام،
ص21 من كتاب التوجه الاجتماعي في الإسلام ج2 ط: مجمع البحوث بالأزهر 1391هـ.
12- الشيخ محمد أبوزهرة: المجتمع الإنساني في ظل الإسلام ج2
ص22 من كتاب التوجه الاجتماعي في الإسلام.
13- الإمام أبو زهرة: العلاقات الدولية في الإسلام ص34 ط:
دارالفكر العربي.
14- راجع الدكتور حامد أحمد الرفاعي: الإسلام والنظام
العالمي الجديد، ص 129-134، بتصرف .
15- سعيد عطية أبو عالي: الإسلام والغرب، ص 28-30.
16- د. حامد أحمد الرفاعي: الإسلام
والنظام العالمي الجديد، ص 75.
جمادى
الأولى – جمادى الثانية 1430 هـ = مايو - يونيو 2009 م ، العدد : 5-6 ، السنة : 33